°
, December 7, 2024 in
آخر الأخبار
قضايا

انهيار الدولة السورية . آرام كرابيت

إن وجود الدولة ضرورة موضوعية في هذه الحضارة، لا يمكن الاستغناء عنها أو إلغاؤها؛ حيث إنها تملك القدرة على إدارة النزاعات، وتمثيل المصالح، وتمكين الفئات الاجتماعية من التوافق والتعاون والتنسيق، ومن خلق بيئة مستقرة، كما يمكن من خلالها خلق النزاعات والصراعات المفتوحة.
مع الأسف، ما زالت العلاقة بين الفرد والدولة تحكمها حالة غربة، كلاهما يؤدي دورًا، ثم ينفصل أحدهما عن الآخر، ويذهب كل طرف إلى غايته أو إلى مصيره، من دون تحديد اتجاهه.
هناك من يريد أن يُوحّد بين ذاته والدولة، كما كان سابقًا على الدولة الحديثة، وكما هو الحال في سورية في ظل عائلة الأسد، وفق علاقة انفصال، وإرغام على التوحد؛ ما أدى إلى انشطار الدولة والمجتمع.
كان السوريون على وعي كامل بمصالحهم، بُعيد انسحاب الجيوش العثمانية من بلادهم، عام 1918؛ ولهذا عملوا على ملء الفراغ السياسي الذي تركته السلطنة، بعد أربعمئة سنة من وجودها.
من الواضح أن الحداثة العلمانية تركت أثرًا إيجابيًا في السوريين الأوائل، أي مع بداية الاستقلال عام 1918، حسب ما جاء في الجلسة الأولى للمؤتمر السوري الأول عام 1919: “إن الأمة تتطلع إلى فجر جديد، تتجلى فيه فكرة تأسيس حكومة تتفق وروح العصر، لا دخل فيها للدين، فتبقى الأديان السماوية في حرمتها وقداستها، وتسير السياسة في انطلاقها، حسب ما تقتضي مصلحة الوطن، أسوة بالأمم الراقية في أوروبا وأميركا”.
استجابت الشرائح الاجتماعية المختلفة في ذلك الوقت لتأسيس دولة معاصرة مؤمنة بتداول السلطة، كما كان سائدًا في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية.
من خلال هذه الفقرة الواضحة، يرى المرء أن السوريين حاولوا التأسيس على هذا البناء: بناء الدولة المعاصرة، ومحاولة ترسيخ قواعدها وأُسسها للتمكن من امتلاك وجودها كفعل حداثوي، يجمع المخالفين والمصالح المتنافرة تحت قبة دستورها وبرلمانها.
بهذه الحالة؛ نستطيع القول إن الدولة تتحول إلى ضمير عام، ينظم الرغبات والأمزجة والمصالح، كيان مستقل يسعى إلى ربط المجتمع ببعضه من موقع الضرورة لجميع أبنائه.
إن سنوات الانتداب الفرنسي سارت في هذا الاتجاه، إذ ترسّخ فيها واقع جديد في تاريخ سورية الحديث: رسمت حدود الدولة، ووضعت أسس النظام الجمهوري الوليد، ونشأت مؤسسات الحكم.
فتح الجنرال هنري بونسو حوارًا مع القوى الوطنية، كبديل عن سنوات المقاومة المسلحة التي بدأت منذ عام 1920 إلى عام 1927، وتم تشكيل مجلس نيابي، وشق الطريق نحو تشكيل دستور جديد للبلاد، وتم الإعلان عن قيام الجمهورية السورية في العام 1932، وانتخاب محمد علي العابد كأول رئيس جمهورية، في حزيران من العام المذكور. وكان هناك استقرار نسبي في هذه الفترة التي امتدت من عام 1927 إلى عام 1937، إلى أن بدأت ملامح الحرب العالمية الثانية تظهر في الأفق.
حاولت فرنسا أن تُجهّز نفسها للاحتمالات القادمة، من خلال إبرام معاهدة عام 1936؛ من أجل وضع لبنة جديدة في العلاقة بين الحكم الوطني وسلطة الانتداب الذي مهّد الطريق لفتح صراع طويل بينهما، لم ينتهِ إلا بانتهاء الاحتلال وحصول سورية على استقلالها.
مارس ذلك الانتداب وصايةً مباشرة على النخبة السياسية السورية، من دون تقديم أي تنازل يضعف سلطتهم. وما أثار السخط والقهر لدى الشعب السوري هو تنازل سلطة الانتداب عن لواء إسكندرون لتركيا في حزيران/ يونيو 1939، الذي أدى إلى حدوث شرخ وتصدع عميقان، لا يمكن ترميمه بسهولة وزاد الأمر سوءًا، الإعلان عن الأحكام العرفية، واعتقال الزعماء الوطنيين، وتغيير مسار الوضع السياسي، وبدء مرحلة جديدة من الحكم المباشر لفرنسا على سورية.
كانت سورية قلقة جدًا، وما زالت، وغير متوازنة سياسيًا، تتقاذفها رياح السياسة المباشرة الداخلية والإقليمية والعربية والعالمية، سواء في فترة الانتداب أو بعده أو في فترة الاستقلال أو الانقلابات أو في فترة استيلاء عائلة الأسد عليها.
ولدت غريبة، دون رؤية أو نهج واضح. مأساتها أن أبناءها مشوشون، لا يعرفون لهم هدفًا ولا استراتيجية واضحة: أحزاب علمانية، ذات رؤية ماضوية، تستمد من التاريخ حضورها، وطنيون حاربوا المستعمر، وتعاونوا معه.
إن تناقض السياسة الداخلية والخارجية، وارتباطها بالانتداب وما أفرزته معاهدة عام 1936، أدى إلى صراعٍ بين القوى الوطنية: انقسام الكتلة الوطنية إلى حزبين سياسيين رئيسيين، هما حزب الشعب والحزب الوطني، ولكل واحد منهما له توجهه وسياساته، بيد أنهما في العمق لا يختلفان عن بعضهما. حزبان كبيران بلا أيديولوجيا، وبلا رؤية سياسية استراتيجية بعيدة المدى، وبلا برنامج سياسي أو فكر سياسي يكون حامل لهما.
إن هيمنة الاستعمار ونفوذه أدت إلى ظهور كيان سوري ضعيف، وزاد الأمور سوءًا دخول الصراع البريطاني – الفرنسي على الخط الذي أدى بدوره إلى فتح المجال للتدخل الخارجي، عبر أجنحة خاضعة، كالمحور الهاشمي عبر طرح مفهوم سورية الكبرى والهلال الخصيب، والمحور الآخر، السعودي المصري.
لقد لعبت الصراعات السياسية الداخلية، وتناقض المواقف بين القوى السياسية، غير المهيمنة، على إضعاف الدولة لتتحول إلى حصانٍ حائر لا يعرف إلى أي اتجاه يسير أو إلى أي مكان ينطلق أو يقف أو يستمر، وكل طرف يمسك الرسن بيده ليوجهه إلى الوجهة الذي يريد.
وقد ساهم العراق والأردن الهاشميان المرتبطان بمعاهدة ببريطانيا، في صراعهما مع مصر والسعودية إلى اللعب على التوازنات السياسية الداخلية الهشة في سورية من شد وجذب، أدى إلى إضعاف دور الدولة؛ ما أضعف الحزب الوطني وحزب الشعب معًا.
في هذه الفترة، الثلاثينيات، برزت أحزاب أيديولوجية، وضعت مصلحة الأيديولوجيا فوق مصلحة الضمير والدولة، فاستغلوا هذه الصراعات بأبشع شكل، كما جيّروا الواقع وقضية فلسطين لمصلحة الأيديولوجيا ببراغماتية مبتذلة، من أجل الوصول إلى السلطة بأي ثمن.
بمجرد أن قام الزعيم حسني الزعيم بانقلابه في 30 آذار/ مارس 1949؛ أيّدت هذه الأحزاب هذا الانقلاب كحزب البعث والإخوان المسلمين والقومي السوري وحركة الاشتراكيين العرب، والشخصيات البارزة، كأكرم الحوراني وميشيل عفلق وغيرهم كثر، أصواتهم عالية، وتتحدث عن الحقوق والقيم الاجتماعية من دون أن تضع في حسبانها بقاء الدولة ككيان يجب حمايته والحفاظ عليه من الانهيار، وحماية الديمقراطية السياسية كجنين صغير يحتاج إلى الرعاية والحماية.
لقد أرهق السياسيون السوريون الدولةَ في معاركهم السياسية من دون أي اعتبار لمستقبل الدولة السورية الوليدة وشعبها، وبخاصة بُعيد الاستقلال، أي بعد العام 1946. ولم يُحاول السوريون ترميم التصدعات أو الحفاظ عليها من الانهيار، بسبب الخلافات السياسية العمودية والأفقية والصراعات العبثية، والمصالح الآنية الضيقة، ودون رؤية واضحة لما ستؤول إليه الأمور.
يقول رئيس الوزراء السوري السابق خالد العظم في هذا الصدد ما يلي:
“إنني أعتبر نفسي أحد المسؤولين عما جرى، كليًا أو جزئيًا، في سورية بين 1943 و1958، فأنا لا أنكر أنني أتحمل مع غيري قسمًا من الوزر، في ما فقدته بلادي من السيادة والاستقلال، لكن المسؤول الأول هو الجيش بأركانه وضباطه وصف ضباطه؛ ذلك أنه هو الذي سيطر على مقدرات البلاد منذ 30 آذار/ مارس العام 1949”.
ليس مهمًا رمي المسؤولية على هذا الطرف أو ذاك. ففي الوقت الذي خسرت سورية السيادة والاستقلال؛ خسرت أيضًا الدولة، ككيان جامع يلتف حوله مواطنوها للتعبير عن إرادتهم الحرة في بناء شكل دولتهم ومجتمعهم وطريقة إدارتها لمصالح مواطنيها.
من غرائب الأحداث أن ما يسمى بالرجعيين، كالإقطاع والبرجوازية والانتماءات العائلية والعشائرية، هم من تعامل مع الدولة الحديثة، وآمنوا بتداول السلطة وحاولوا الحفاظ عليها من الانهيار بالرغم من الصراعات السياسية الداخلية والخارجية.
إن الانقلابات كانت الكارثة الأكبر التي حلت بسورية، وأغرقتها في دوامة المؤامرات التي كانت تحركها أطراف متعددة داخلية وخارجية. لقد استهلكت الانقلابات القوى السياسية والعسكرية وأضعفتهما، إلى أن وصلت الجمهورية السورية إلى طريق مسدود في منتصف الخمسينيات، وتبين أن النظام غير قادر على الاستمرار، لهذا لم يبق إلا خيار الهروب إلى الأمام، وتسليم سورية لجمال عبد الناصر عام 1958.
إن رهن سورية لمصر، قزّمها، وأنهى نظامَها الديمقراطي والانفتاح الذي كان قائمًا فيها. وبمجيء حافظ الأسد عام 1970 إلى سدّة الحكم؛ أسدل الستار على مرحلة سياسية غنية، وبدأ بمرحلة العائلة المالكة، عائلة الأسد.

آرام كرابيت . كاتب وروائي سوري