المجتمع السوري مجتمع مُركَّب إثنياً ودينياً ومناطقياً وأيديولوجياً، وبذا فسوريا الحالية هي مجموعة من ” الأقليات “.العدد الأكبر نسبياً للطائفة السنية، لا يُعبر عن واقع متناغم داخل الطائفة يجعلها ” أكثرية ” بمآل فعلها وتوجهها! بل هي أيضاً مجموعات ” سُنّيّات” متنافرة لا رابط بينها، وتقوم هويتها الجمعية المؤقتة على إستحضار العدد على إفتراض غلبته، شأنها شأن الأطراف الأخرى التي تستحضر مسائل أخرى في الغلبة وتحديد الهوية، قد يكون من بينها إفتراضالأقدمية والنقاء السلالي والتمايز الحضاري …الخ.هذه ” التركيبة ” الإجتماعية لا يربطها مُشترك، يُعوّل عليه موضوعياً في تناغم مجتمعي، يُحقق مساراً حضارياً مشتركاً بينها، فلكل مجموعة سورية روايتها الخاصة عن مظلوميتها الخاصة وعن التاريخ والحاضر وعن كيفية بناء المستقبل المُراد وفق تصورها، وداخل كل مجموعة من هذه المجموعات أيضاً رؤى أخرى لذاتالأمر، وبذلك فهذه التركيبة الإجتماعية خليط غير مُتجانس محشور حشراً في هذه المساحة المسمّاة ” سوريا “.
يُمكن الحديث هنا عن غنى ما، هو مصدر قوة وحيوية كامنة لدى المجتمع السوري، وهو أمر ليس فريداً بهذا العالم الذي بدوره، وبكل جزء منه يحمل تنوعاً وتعدداً كبيرين، بل إن العالم ما هو إلا مجوعة أقليات بالمعنى العام للكلمة بمستوياتها المتعددة.هذا الغنى والقوة والحيوية الكامنة تحتاج ” كلمة سواء ” تتمثل بعقد إجتماعي يضبط علاقة الدولة كجهاز إداري بالمجتمع السوري، وعلاقة هذا المجتمع المُفترض مع بعضه، بحد أدنى من التوافقات التي يمكن من خلالها وبها ، البدء بعمل مُجدٍ ومثمر مع الوقت.
عند التحرر من الإحتلال العثماني وتأسيس المملكة السورية 1918، بدأت تفاصيل تتلمس الطريق الى العقد الإجتماعي بين هذه المجموعات، الأفراد….الخ التي تشترك في الأرض السورية بالعيش، أبرزها -إضافة لبعض التفاصيل الإدارية – المؤتمر السوري الذي إنعقد في النادي العربي في دمشق في حزيران 1919 من خمس وثمانين عضواً، أغلبهم أعضاء سابقون في مجلس المبعوثين العثماني ومن مختلف البلاد السورية، حينها من العريش حتى مرسين، ومن الساحل السوري الى الشرق السوري في دير الزُّور وغيرها. أعلن الحاضرون بعض التوافقات الخاصة بفهم ماهية السوريين وتطلعاتهم، وإن كان لا يعكس هذا الإعلان -لا يعكس تماماً- حقيقة الواقع الحضاري الممتد في ذهن ووجدان الناس هنا وقتها، بل الأمل والمراد، وهي خطوة مهمة بهذا المستوى لدى السوريين حينها، ومن ثم بدأت خطوات أكثر جدية- بالمعنى القانوني -في ظل الإنتداب الإفرانسي، قُبيل إنتهاء العمل المسلح للتخلص من الإنتداب ، ومآل الأمور الذي كرّس مفهوم العمل المدني والسياسي، تمّ ذلك بظل قرار إداري للسلطة الإفرانسية في شباط 1925 بعد صدور قرار بعهد المُفوّض السامي الإفرانسي سراي قُنّن بموجبه تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية.
بدأ عهد من محاسنه نمو أفكار وتصرفات وسياقات تخدم فكرة بناء عقد إجتماعي لهؤلاء البشر القاطنين هنا في ” سوريا ” المتمتعين بجنسيتها، وإن كان الأمر في أغلب هذا السياق مزيج ردّات فعل وتشكيل الهوية والمشترك، على أساس الضّدّيّة، أومساحات قليلة مضبوطة من الحرية في التعبير وتلقي المعلومة، وقد استمر ذلك في ظل الإنتداب واستمر بتداعياته بعد الإستقلال، ومن ثم الجلاء وصولاً لسنة 1958، والدخول في اتحاد فرضه العسكر في سوريا مع مصر، هنا توقفت هذه الخطوات البسيطة السابقة في بناء عقد إجتماعي للسوريين بشكل كامل لمصلحة قيادة فردية ألغت مفهوم فرادة الفرد- المواطن، ومن ثم ألغت مِيْزَته كذات مستقلة مُتمثلة بسعيه لبناء مشترك مع غيره، لمصلحة تحويله لنسخة مكررة من جمهور يُشكِّل وجدانه وتصوراته زعيم!. زعامته هي مزواجة غير متناسقة بين التركيبة الإجتماعية والطموحات الفردية والأيديولوجية الطوباوية المتخمرة في الذهن ،وغير النامية في واقع الحياة الطبيعية الجارية عفواً!.
فقدت سوريا في هذه المرحلة حرية العمل السياسي وتأسيس الأحزاب بالمعنى القانوني المعروف لذلك… الخ، وطغى هاجس الأمن بالمعنى الضيّق للكلمة واستُخدم، بمآل الأمر وبمعزل عن النوايا في الإدارة وتحقيق الأهداف وضبط الجمهور ومحاربة المختلف وتكريس المزايا لمن يملك السلطة.
وقد إستفاد الأسد الأب من هذه المرحلة وبعض أخطائها في الإدارة الشمولية المركزية للدولة ومقدراتها ومتنفسات العمل ” الحزبي ” في إعادة إنتاج نفس النظام عند نجاح إنقلابه العسكري 1970 وكما إستعاد الشعارات العابرة للحدود عينها، والمُنكرة للوجود السوري الحالي وواقعه لمصلحة غيب سياسي، يدعمه غيب ديني جعل سوريا دار ممر لمقر مؤجل، فلم يتم البدء بأي تجربة حقيقية يمكن البناء عليها من أجل العقد الإجتماعي لهؤلاء البشر الذين فُرزوا هنا في ” الجمهورية العربية السورية ” ،ومن ثم الإنطلاق لبناء دولة المواطنة، بل في ظل تكريس طبيعة الإدارة المجتمعية التي أسسها نظام الوحدة، ومن ثم الأسد الأب، تبلور بشكل كبير مفهوم الدولة الرعوية الأبوية لسوريا، حيث تم تكريس مفاهيم المنحة والعطاء والسماح من ” الأب القائد ” لأبنائه الرعايا الأولاد” حيث الأب لا يُلام وإن أخطأ بحق ” أولاده “!.
حتى ” القوانين” ما هي إلا تجليات لهذا المفهوم، تجليات بصكوك إدارية إحادية المصدر، بل الدستور عينه الذي يُعدّ التمظهر الأهم لبنى العقد الإجتماعي، ما كان إلا صيغة من التعليمات التنفيذية التي لا أساس مجتمعياً أطلقها، وكذا البنى الفوقية الحزبية السورية، المسموح بها من قبل هذا النظام، سواء داخل ” الجبهة الوطنية التقدمية ” أو خارجها، ليست تعبيرات عن عقد إجتماعي أو خطوات بهذا الإتجاه، بل هي مساحات لعمل لا مشترك فيه من حيث الهدف والغاية مع الواقع، وأغلبه عابر للحدود ولا يقيم لها وزناً، ولا يعتبرها، حتى يمكنه أن يبني عليها أمراً ما لحاملي الجنسية من القاطنين داخلها، بما يرفع سوية وجودهم الإنساني، بل هي- هذه الأحزاب – كما النظام خليط من البنى الاجتماعية القديمة، وما هو مأمول أيدلوجياً وبشكل متنافر لا يُشكِّل إمكانية لبناء خطوات على طريق العقد الإجتماعي الذي عبره تؤسس الدول وتبنى المواطنة.
واستمر نظام الإدارة هذا عبر هذه الرؤية الأحادية في النظرة بدون عقد إجتماعي مشترك، في أحادية القرار المؤسس للحراك المجتمعي، بما فيه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني …الخ وما يَؤول بسبب ذلك الى مركزية السلطة والثروة والإستحواذ على القرار … الخ، وهو أمر شكل إعاقة لإمكانية استمرار الدولة والمجتمع بهذا الشكل.
كان هذا الأمر دافعاً لأمل عند سوريين بعد وراثة الابن أباه لنظام الحكم والدولة والمجتمع والثروة والعلاقات الدولية …الخ، كان دافعاً لأمل بأن يبادر الأسد الإبن بإصلاح سياسي يُعيد الاعتبار للمجتمع كمصدر للشرعية، التي تؤسس على كلمة سواء، والبدء بخطوات تُوصل لعقد اجتماعي بالقدر الممكن بعد تجربة ممتدة من نصف قرن تقريباً، بيد أن الأولوية والخيار الذي طرح من العهد الجديد – الأسد الإبن كان مفهوم “ الإصلاح الاقتصادي ” كمدخل لتحسين الحياة المجتمعية السورية، والذي تبين لاحقاً وبمآل الأمر، إنه سياق يخدم إعادة شرعنة المال العام، المسروق تحت شعارات التحويل الاشتراكي وتحرير الأراضي السورية والعربية المحتلة وعناوين الغيب السياسي الاخرى في عهد أبيه.!
إعادة شرعنته وتفعيله بما يخدم طريقة الإدارة السابقة عينها للمجتمع وبما يخدم الإستمرار في الحكم لا أكثر ولا أقل؛ لذلك ما جرى لاحقاً من حراك شعبي إبتداءً من آذار 2011 له أسبابه الموضوعية، حيث استند في تلك الأسباب على الاحتقان المجتمعي الناجم عن الاستئثار بالسلطة والثروة لمصلحة بضع عائلات وشركائها، في حين المجتمع السوري -بالأغلب الأعم- متروك لتداعيات من النمو المتداعي غير المدروس الذي يتداخل فيها الداخل والخارج بشكل غير معروف وواضح، عائلات شكّلت مافيا أدارت البلاد مستثمرة في الثقافة السائدة منذ قرون ولَم تضع أي خطوة جدية لبناء طريق لحياة جديدة معاصرة.
وحتى الآن كسوريين نحن معنيون بوضع كلمة سواء فيما بيننا للإنطلاق منها الى تأسيس عقد إجتماعي قائم على الشراكة في الحقوق والواجبات والمصالح والمنافع والمسؤولية وليس على الغلبة والقسر من أي نوع، في شكل الدولة وعلاقاتها مع المجتمع وعلاقات “المجتمع” السوري مع ذاته المتنوعة.
أزعم أن الكارثة السورية الإنسانية الحالية إذا لم تُثمر تجربة إنسانية تؤسس لقطيعة مع الثقافة المجتمعية السائدة، وتنطلق الى تبني ثقافة تليق بالحياة فالأمر عينه سيتكرر مراراً عبر الإستثمار من قبل كل الأطراف بثقافة الخراب عينها التي تنتج لوحات مختلفة تُعبَّر عن الخراب عينه المستمر منا وفينا وعبرنا.
وأزعم أن الثقافة الجديدة يجب أن تُفعّل من خلال القانون لترسيخها وتعزيزها وجعلها مشتركاً إنسانياً سورياً، يُؤسس لاحقاً لعقد إجتماعي يضمن بقاء الدولة وقيام المجتمع السوري المتجانس بالقدر الممكن للبقاء الحضاري، ومن بعض تفاصيل العمل القادم المؤسس لذلك الإنطلاق، بعض أسئلة صعبة تقتضي الإجابة الصريحة عليها:
هل يصلح منطق الغَلَبة بمعناه التقليدي القائم على القسر والدحض الديني أو الإثني أو الأيديولوجي أو المناطقي وبدون مناخ قانوني؟ هل يصلح لبناء دولة أو عقد إجتماعي؟
أين الحدود التي يجب وقف تداخل الدين والسياسة مع بعضهما فيها؟ وما هي مساحة وحدود الدين التي تُعززه القيم الروحية ولا تمتطيه السياسة لفرض توجه أيديولوجي فئوي؟.
ما هو موقفنا من العَلمَانية بشكل واضح وجلي وغير حمّال أوجه أو التحايل عليها عبر مفاهيم لا علاقة ولا أصل لها في علم الإجتماع السياسي من قبيل الدولة المدنية وتحكيم شرع الله وتطبيق الرسالة الخالدة للأمة الواحدة العابرة للحدود؟.
هل يمكن الركون في بناء المجتمع السوري للمواعظ والقيم الدينية والروحية حمّالة الأوجه غير القابلة للقياس؟!. أم أن القانون قد يُشكل مدخلاً ضرورياً ومُلهماً لبناء مجتمع سوري وقيم مشتركة سوريّة؟ تجعل هناك إمكانية للتحقق من الأمور وصوابية تنفيذها وعدم الإستنسابية في الطرح والتنفيذ والتقييم؟.
ما هو الموقف غير المُوارب من حقوق الإنسان؟ في مسائل عديدة ومن ضمنها الأحوال الشخصية في قضايا الزواج والطلاق والإرث وتعدد الزوجات ووضع المرأة وحقوق الطفل وعدم التعدي عليه من حيث تلقين القيم الأحادية الأيديولوجية الدينية أو الحزبية؟؟ وإحترام الحيّز الشخصي والآمان وإحترام الخصوصية….الخ؟.
هل الدولة جهاز إداري خدمي أم جهاز تبشيري أيديولوجي؟.
ما هي الصيغة المقترحة لإدارة ” المجتمع “السوري المركّب إثنياً ودينياً ومناطقياً وأيديولوجياً؟ وتجليات ذلك في إحترام الثقافات والطقوس الثقافية والروحية المتنوعة في سوريا؟!.
العدالة؟ هل تعني المساواة بين الناس بمعزل عن إمكانياتهم المعرفية؟ وما هي تداعيات ذلك في تقرير مصير هذا المجتمع؟ هل يمكن الدعوة ل “الجميع” لبناء شكل الدولة الجديد والعقد الإجتماعي؟
ما علاقة سوريا المستقبلية مع دول الجوار وما هو دورها المأمول وهل هي دار مقر أم ممر؟.
يجب أن تتجلى إجاباتنا تلك على الأسئلة المطروحة أعلاها وعلى غيرها من الأسئلة الكثيرة المُلحّة في شكل الدستور الجديد ومدى الإلتزام بتنفيذ ذلك؟!.
http://www.mena-monitor.org/ar/page152/البنية_الإجتماعية_السورية_والعقد_الاجتماعي