°
, April 16, 2024 in
آخر الأخبار
عيـســـى ابــراهـيـم

المواطنة

أزعم أن المواطنة مفهوم حقوقي سياسي مُتقدّم في علم الإجتماع الإنساني ، تجاوز مفاهيم علم الإجتماع السابقة ، التي شرح بعضاً منها بن خلدون وغيره.. لجهة قيامه على الغلبة والكثرة وغيرها من المفاهيم القائمة على الإنتصار الفئوي والدحض تبعاً لذلك .
سوريا بلد متنوع إثنياً ودينياً ومناطقياً حتى داخل بعض الكتل الإثنية أو الدينية التي تبدو للوهلة الأولى كتلة متجانسة واحدة عند تَبَيَّن ملامح ” هويتها ” بسبب الضّدية مع الأخر فئة أو أفراد ..
لذلك أزعم أن من الخطورة بمكان طرح مفاهيم فئوية إثنية أو دينية في تحديد هويّة سوريا أو تحديد مسار نظامها السياسي ، فذلك مُنافِ جذرياً للمواطنة كمفهوم حقوقي سياسي قائم على الحق والواجب وتكافؤ الفرص .. بمعزل عن الخلفية الاثنية أو الدينية للفرد المُنتمي للجنسية السورية ،بإعتباره مواطناً ٠ وهذا يُتيح الفرصة لجميع السوريين للتعبير بمعيارية قانونية عن هوياتهم الفرعية المُتَضَمّنة داخل هويتهم الوطنية ، التي بدورها مُتَضَمّنة داخل الهوية الإنسانية ، حيث التناغم الممكن الذي يكفله القانون ، ويضبطه قدر الإمكان بين المُخْتَلِفين ، مُحوّلاً ذلك أينما أمكن الأمر الى عامل غنى وتنوع يُثري الحياة السورية العامة .
التوصل إنسانياً الى المواطنة كتعبير راقٍ في علم الاجتماع يحمينا من انتقاء معايير الغَلبَة لفرض الهوية الفئوية الإثنية أم الدينية أم المناطقية .. الخ
حيث نميل على قاعدة مصلحتنا الفئوية لاعتماد مفهوم الأكثرية إذا كنّا الأكثرية ! ونعتمد الأقدمية في المكان اذا كنّا نزعم أننا الأقدم فيه من غيرنا وهكذا دواليك من الحجج الفئوية التي تأخذ مظهر” الحق” وهي غير ذلك، فهذا الزعم الفئوي يؤدّي بنا جميعاً كسوريين الى التفتيت والدمار والخراب بما فينا صاحب الدعوة الى تلك المعايير الفئوية ….
اللغة والدين وسائل مساعدة في الإجتماع الإنساني وليست مُؤَسِسَة له ، فالمكان هو المحل الوحيد للإجتماع الإنساني ، لذلك من الخطورة الخلط في تحديد الهوية، بين المكان أو اللغة أو الدين أو الأصل السلالي ، وهذا الأخير هو زعم مُجرّد ،فلا نقاء سلالي في العالم ، فما بالنا في سوريا قلب العالم القديم والحديث وممر لكل حراك العالم التاريخي بسبب موقعها الجغرافي ! وحيث يتم الالتفاف هنا بتلبيس المنطلق السلالي بُعد ثقافي غير مُنسجم ، كإعتبار كل من يتحدث لغة عربية مثلاً عربي ! أو إطلاق كلمة مسلم ، على كل تلك الفئات التي تبلغ المئات في تنوعها وفهمها للنص القرأني … غير أن ذلك التغليف لتلك المسائل الفئوية سرعان ما تكشف الممارسة جوهره الحقيقي بحكم طبيعة منطق المُنْطَلَق منه وضروراته ، و ليس بالضرورة بسبب ” مؤامرة “ما منه ، فيكشف بالمحصلة إختزلات كاملة تنتهي بتصور شخصي غير مشترك مع أخرين ، يلبس لبوس النظرة الموضوعية العامة !
المواطنة كمفهوم حقوقي وسياسي تحمينا جميعاً كأفراد مواطنون نحمل الجنسية السورية ، مقيمون في الوطن السوري، وفق الأصول القانونية ، المواطنة أيضاً تحمينا من التبعات السلبية لإستخدام هذه المفاهيم المنتمية الى مرحلة ما قبل المواطنة في المجال السياسي والقانوني ، وبنفس الوقت تحمينا وتُشجِّعنا ضمن مناخ القانون حيث الحق والواجب وتكافؤ الفرص ، وتُمكننا من ممارسة وتنمية وتطوير ثقافتنا الفرعية سواء أكانت عربية أم كردية أم سريانية أم أشورية أم كلدانية أم شركسية أم تركمانية … الخ أم مسلمة أم مسيحية وبكل تفرعات هاتين الاخيرتين .
مع تأكيدي أن الدولة هي جهاز إداري وتنظيمي و خدمي مُحايد ” حياد إيجابي إن شئت القول ” مهمته تَمكين المواطن السوري في حياته بشكل أفضل وبإستمرار الوقت ..
أزعم أيضاً أن سوريا هي هوية قائمة بذاتها ومُعرّفة ، ولا تحتاج الى لازمة أخرى للتعريف بها . لقد دفعنا تاريخيا ً ثمناً كبيرا ً لاستخدام المفاهيم الأيديولوجية في تكريس الاجتماع الإنساني ونحصد الآن تجربة غير مُوفقة لتعريب سوريا بالمعنى السياسي ، وبذا حرّضنا لدى الهويات الفرعية الأخرى ذات المنطق من الأمة الواحدة والرسالة الخالدة وأصبح لكل هوية فرعية سوريّة تلك النظرة في فهم البعث للاجتماع الإنساني !
النيّة الطيبة لا يمكن التأكد منها ولا يمكن اختبارها إلا بالأفعال الجيدة بالمعنى القانوني لهذه الكلمة الأخيرة ، وكذا باستخدام مفردات قابلة للقياس والتحقق من نسب الإنجاز .
لفتني موضوع الاستشهاد ب” مراجع تاريخية” في تأكيد بعض نقاط فئوية ضد الأخر المُختلف فرداً أو إثنية أو ديناً أو مكاناً..الخ وهنا من المفيد القول أن التاريخ علم له قواعد ، من ضمنها الوقائع والأرقام والتاريخ وذكر عوامل التفاعل الإنساني سواء الحروب والصراعات أو كيفية العيش بشكل يُركّز على الموضوع … الخ أما مُضي وقت طويل على كتابة كتاب أو قول يحوي كلمات تستخدم تعابير تفاضلية أخلاقية فئوية و تتضمن نظرة خاصة نفسية تجاه الحدث ، فذلك لا يعتبر تاريخ ولا كتابة تاريخ مهما كان حجم الانتاج ” المعرفي ” فيه . بل هو حكايا فئوية يتناقلها الأبناء عن الأجداد ” بالمعنى البسيط للكلمة وليس المعني المفيد لكلمة الحكايا ” كلها أحكام تفاضلية دحضية تُظهر أننا نحن دائماً الخير كله في مواجهة الشر كله، وأن كل وقائعنا المُتخيلة ” حقائق ” لا يأتيها الباطل، وكل وقائع الأخر أباطيل وأكاذيب ليس بها وجه حق ! فيصبح غزونا فتحاً ، وفتح الأخر- المُفترض منه – غزواً ” وفق الدلالة التفاضلية لهذين المفهومين ” ! ونُصبح المظلومين أبداً والخيّريين دوماً ! نُركّز على جزئية من المشهد وعلى وجهة نظر واحدة، وحتى توافق بعضنا على بعض ما تبقى منا ، يكون توافق الكارهين المجتمعين على الأخر المُختلف عنهم في ساعتها، لا المُتفقين على صحة الواقعة موضوعياً وفق شروط البحث العلمي التاريخي .
أزعم أيضاً أن اللغة من المهم أن تكون فعل بنّاء للتواصل مع الأخر لايصال فكرتنا له، والانتصار بها في نفسه ووجدانه ، وليس من المُجد تحويلها لأداة سوء فهم متواصلة ، مرة عبر الاتهام المُسبق ،ومرة عبر الدحض المغلّف بالتهذيب المفتعل ، الذي سرعان ما تكشفه مفردات اللغة المستخدمة المهذبة ظاهراً ،والمليئة بالدحض للأخر فرداً وإثنية وديناً ، نحن بحاجة لفكرة-كلمة باردة كحقيقة، مع رغبة حارّة للمعرفة الحقّة ..
بعد ست سنين وقبلها عقود وقرون، ألم يحن الوقت للغة مختلفة ! هل من الحكمة الاستمرار بذات اللغة بالحديث مع المُختلف بهذه الطريقة وتوقّع نتائج مختلفة !
كيف يُمكن إقناع الأخر بسماعنا أو بصوابية رأينا في ظل انطلاقنا من ” حقائق ” غير قابلة للنقاش !! ما هو شعور وموقف الأخر المختلف !؟ الأخر الذي هو نحن في أوقات أخرى !.
أزعم أيضاً أن الهويّة مفهوم حيوي مُستمر وليست أمراً ثابتاً ، فنحن جزء من تشكُّله بالأخر، فتصرفنا العام يُعيد أيضاً تشكيل هوية الأخر … الأخر الذي هو نحن في موقف أخر ..
أزعم أيضاً أن ما نعيشه الآن في سوريا هو أخر فرصة لبقاءنا معاً في مجتمع سوري واحد ، ضمن وطن سوري واحد ، وأزعم أننا أمام تحدّ كبير لتثبيت المشترك بيننا ب ” كلمة سواء ” فلدينا ريبة وسوء فهم تاريخي عميق بين الإثنيات وبين الطوائف وبين العشائر وبين المناطق والمدن وبين الريف والمدينة .. الخ وأي مفهوم غير مشترك ولا يقوم على كلمة سواء بين جميع السوريين، سيحوّل هذا التنوع السوري من عامل غِنى الى عامل تناقض لن يُبقي ولن يٓذر.

16 شباط 2017