°
, November 12, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

رواية الأرض ، الحلقة الثامنة ل : د محمد عبدالله الأحمد .

-24-
كانت عائلة شحادة تلتحف السماء و تنام في حدائق دمشق، و عندما تستطع الشمس يجلسون جميعاً على رصيف المرجة لبيع أي شيء يتسنى لهم، فلقد أشار لأمهم أحد تجار البزورية أن تشتري من عنده، و تصر البضاعة في حصص صغيرة و تبيع على الرصيف ، فكان لها أن أمنت بعض المال لتقيم أود أطفالها و نفسها . وفي أحد الأيام قرر التاجر و كان اسمه محمد الشرباتي أن يتعمق في سؤال المرأة عن حالها، و سر مأساتها .
-اختي حكيلي شو قصتك انتي ؟
دامعة العينين حكت له قصة حبس زوجها ظلماً ، و كيف منعت عن رؤيته و لو لمرة واحدة، و حكت له قصة الجريمة التي حصلت في حمص .
كان الرجل ذا مرؤة و أخلاق ، قال لها :
-هادا ابتلاء من رب العالمين، لا تخافي يا اختي ! أنا رح ساعدك
-كيف رح تساعدني
– أول شي رح تضلي تشتغلي أنتي وولادك معي و رح جبلكن عرباية، و تاني شي رح روح معكن ع المخفر و نشوف الرجال و هاد حقك .
-الله يوفقك و يطول عمرك يا خي
في اليوم التالي ذهب محمد شرباتي برفقة العائلة إلى مخفر الحلبوني، و تحدث مع رئيس المخفر، مقدماً له هدية صغيرة من نتاج محله، حيث تغيرت معالم الشرطي و تعامله بالكامل .. فأسرع القول :
-حكاية شحادة كبيرة يا حجي أخدوه ع القلعة و المحكمة بكرا بالقلعة، و بيجوز ياخد اعدام !
-له له لك الزلمة بريء
– الحاكم العسكري الفرنسي بذاتو مهتم
-اف الحاكم الفرنسي !!!!
– إيه .. انت ما عم تقرا شو عم ينكتب عن القصة بالجرايد ؟
– لا والله
– إي خود شوف
-25-
خرج محمد شرباتي ممتقعاً من المخفر محاولاً إخفاء قلقه و لم يجب عن أسئلة المرأة و أولادها، بل قال لهم :
– الحقوني
سار و سارت وراءه العائلة عبر حارات دمشق القديمة حتى وصلوا إلى منزل المحامي عبدالحميد الغزي ، قرع التاجر الباب فخرج له الأستاذ الغزي بنفسه :
-السلام عليكم
– و عليكم السلام
– استاذ أنا آسف ما بعرف وين مكتبك بس بعرف البيت، و عندي قضية مستعجلة .
– إي تفضل أهلا و سهلا
دخل و دخلت أسرة شحادة معه، حيث روى هو و أم جبر كل القصة، للمحامي الذي قال :
– كل الشام بتعرف الحكاية و الزلمة وضعه صعب، واضح أنو الفرنساوية بدهن يستغلوا القصة
– كيف يعني ( سألت هيام )
– يعني فتنة بين السنة و العلويين واضحة، خصوصاً انو بدهن التقسيم .. يمكن يا تفهموا عليّ !
– لا بفهم استاذ أنا دارسة صف الكتاب كله بالضيعة و علمني عمي توفيق و بيّ
– يا بنتي المطلوب الفتنة بين الساحل و الداخل لإنشاء دولة الساحل و تقسيم سورية ، هالحكي بيصير واقع بتأجيج الكراهية بين المذاهب .
– فهمت
– أنا رح اجي معكن ع القلعة نزور شحادة و نشوف شو بدنا نساوي

-25-
في مقر المندوب السامي الفرنسي و بحضوره في بيروت جلس ثلاثة من الرجال يتحاورون حول مستقبل البلاد السورية ، و لم يكن المندوب السامي مرتاحاً لما يحصل . قال المندوب السامي :
-أيها السادة نحن من يستطيع إقناع الجنرال ديغول، بأن السوريين بحاجة لنا .. سيادته على استعداد في أية لحظة لإصدار الأمر بالانسحاب من سورية و لبنان إلا إذا تصرفنا بشكل صحيح ! و التقصير في عملكم واضح . البدء بإقامة كيان علوي مهمتكم الأولى، لأن هذا سيمدد وجودنا هنا و تحقيق مصالح فرنسا ! الكيان العلوي سيطلب حماية و تعاون و دعم عسكري ، و سنوقع مع حكومة الساحل اتفاقيات استراتيجية ، في نفس الوقت سيكون السنة بحاجة ماسة لنا لأنهم سيطلبون تدخلنا لإعطائهم منفذاً على البحر ، و نحن سنعدهم بذلك ! يعني يا محترمين مصالح فرنسا العليا في أيدينا الآن .
-سيدي الغاية النبيلة هذه تبرر الواسطة
– ماذا تعني ؟
– أعني أن علينا الانتصار لتيار الانفصال مهما كان الثمن
– و ماذا تنتظر ؟؟

-26-
بعد أن زار عبدالحميد الغزي شحادة في القلعة في نفس يوم المحاكمة و بصم له شحادة على ورقة توكيله كمحامي دفاع ، انتقلوا إلى المحكمة التي تقع في القلعة نفسها ، و كان العسس برفقة المتهم شحادة، و من خلف الجميع كان محاميه و محمد شرباتي و العائلة بكل أفرادها، يمشون باتجاه القاعة .
صاح المنادي : محكمة
دخل على إثرها ضابطان فرنسيان و قاض سوري ثم جلسا إلى المنصة، إضافة للمترجم، و الإدعاء . قال القاضي الفرنسي :
نحن بصدد النظر في القضية رقم 312 للعام 1945 جنايات ، تقول حيثيات القضية أن المتهم العلوي شحادة محمد علي قتل مشغله صاحب الأرض السني سري سليم الجندلي في حمص . ثم نظر للمتهم وسأله :
-هل تعترف بأنك قتلت الضحية يا شحادة
– أبداً يا سيدي كنت عم ضب غراض العيلة لنرحل …
قال القاضي مقاطعاً :
– بعدين … بعدين بتحكي ، مذنب أو غير مذنب ؟
– بريء سيدي براءة الذيب من دم يوسف عليه السلام
– الإدعاء يتفضل
-السادة القضاة لقد قام المتهم الماثل أمامكم بطعن المغدور، مدعياً أنه حاول مغازلة ابنته، الموجودة هنا في قاعة المحكمة، و أشار لهيام ، و ذلك بشهادات موثقة موجودة أمامكم من بعض من حضر الواقعة ! و هكذا يتوفر الدافع لارتكاب الجريمة ، فإذا قبلنا هذه الهمجية و الوحشية في التعاطي مع هذه القضايا، سيتحول المجتمع السوري إلى مجتمع وحوش لا مجتمع بشر أسوياء ! لذلك أطلب الحكم بإعدام المتهم ليكون درساً لكل من يعتدي على أمن الشعب و المجتمع ، خصوصاً بوجود النوازع الطائفية ، التي تهدد استقرار سورية .
القاضي : محامي الدفاع
– عبدالحميد الغزي حاضر عن المتهم
– تفضل
– قبل أن أبدأ بتبيان الحقيقة ، احتج على ورود عبارات طائفية في كلام القضاء أثناء النظر في الدعوى، الأمر الذي سوف يؤثر على سير العدالة، و في هذا مخافة للقانون الذي يتوجب النظر في كل قضية معروضة بتجرد كامل . أما الأمر الآخر فهو إشاعة الفتنة بين السوريين خصوصاً بوجود صحفيين في القاعة، و كلنا يعرف أن هناك صحفيين غير مسؤولين أو مدفوعين …..
قاطعه القاضي الفرنسي :
-سيد غزي ليس من حقك الدخول في السياسة هنا، و نحن نعرف توجهاتك السياسية، أنتم هنا للدفاع عن مجرم قاتل فقط
– كل متهم بريء حتى تثبت إدانته يا سيادة القاضي، و أنا أستغرب كيف يمكن لكم أن تنعتوا موكلي بالمجرم و لم يصدر حكم بحقه بعد ؟ و إني لأخشى أن علي المطالبة بتغيير القضاة في هذه المحاكمة، لأنهم متحاملون على المتهم .
هنا يخرج القاضي السوري عن صمته فيقف قائلاً :
-أيها السادة : إني أوافق محامي الدفاع فيما ذهب إليه و أطلب قضاة سوريين لمحاكمة المتهم ، و إلا فسأنسحب من هذه القضية .
حدث هرج و مرج في القاعة ، و بدت علامات السعادة على وجه عبدالحميد الغزي، أما القاضي الفرنسي فصاح بعصبية :
-يؤجل النظر في الدعوى إلى يوم الغد في نفس التوقيت

يتبع

-27-
كان الرئيس الأتاسي قد أخبر الرئيس القوتلي عن انشقاق حامية تلكلخ، هاتفياً و بأنها قادمة إليه لتقديم السلاح و الولاء لسورية و رفض التقسيم . فأمر الرئيس القوتلي باستقبال الحامية و تكريمها و إعداد ثكنة قطنا من أجل عرض السلاح!
وفي اليوم التالي توجه الرئيسان و صحبهم في موكب، نحو الثكنة العسكرية التي صارت بواقع الاتفاقات مع الانتداب تحت السلطة السورية .
قدم الجنود و قائدهم السلاح في مشهد مهيب للرئيس القوتلي، و جهر النقيب معيوف بعد تقديم السلاح بالقول :
-يا سيادة الرئيس أيتها الحكومة السورية الموقرة ، اسمحوا لي باسم جنودي جنود الجيش السوري ، و ليس جنود جيش الشرق كما أسماه الفرنسيون طويلاً، اسمحوا لي باسم هؤلاء الرجال من جنود و صف ضباط و ضباط أن نضع أنفسنا تحت تصرفكم – سيادة الرئيس – و تصرف حكومتنا السورية العتيدة ، و أن نقول لا !! للمحتل الذي أراد منا تقسيم البلاد ، و ما مجيئنا إليكم إلا رغبة عميقة منا بالتضحية بالغالي و الرخيص لكي نحصل على استقلالنا الناجز اليوم قبل الغد .. عاشت سورية حرة واحدة مستقلة !
أما الرئيس القوتلي فقد قال :
-أيها الجنود السوريون الأبطال، أيها المقدم محمد ! .. نعم أيها المقدم محمد الذي أرفعه اليوم و أمام الجميع رتبتين رتب تقديراً لوطنيته و لتضحيته ، و أيها الجنود أرفع كلاً منكم رتبة عسكرية و اعتبروا هذا قراراً رئاسياً .. أقول لكم : هذا الوطن العظيم الكريم سيحيا مهما كانت المؤامرات ضده، و مهما فعل المستعمر الذي يعدنا في كل يوم أنه سينسحب ، و لكننا نعرف خططه و مؤامراته ضد بلادنا، و ها هو المقدم محمد معيوف يقدم دليلاً أكيداً على الغدر الذي يمارسه المندوب السامي الفرنسي من مقره في بيروت . و أنا أعدكم و أعد شعبنا السوري بأن هذه القضية سوف تكون مثار بحث في المنتدى الأممي ، و مع الرئيس ديغول شخصياً .
أيها الرجال أيها الأبطال
نحن شعب واحد ، وحدنا الكفاح و المصير و التاريخ ، وحدنا الأمل المشترك في صنع وطن الفداء و التضحية ، فكونوا واثقين من أن كفاحكم و صبركم هذا لن يذهب هباء، و أن الحكومة السورية تعمل على تحقيق مطالب الشعب كل الشعب من حلب و الدير شمالاً و شرقاً حتى درعا و السويداء جنوباً مروراً بدمشق قلب هذا الوطن المفدى و لا ننسى أياً من حواضرنا و مدننا و قرانا التي نعتز و نفتخر بالانتماء إليها جميعاً دون أية تفرقة بين المواطنين . و نحن على موعد مع الاستقلال و الجلاء ، شاء المستعمر أم أبى .
عاشت سورية .

-28-
في الخلوة التي جمعت الرئيسين الأتاسي و القوتلي مع المقدم معيوف و بعض أعضاء الحكومة، قال أحد الوزراء للرئيس :
-سيادة الرئيس في موضوع عم يثير قتنة بالبلد وراه الفرنسي و أعوانه
– موضوع الفلاح شحادة ؟
– نعم سيادتك
– للأسف بالاتفاقية الموقعة بيننا و بين الفرنسيين لازال القانون الفرنسي و المحاكم الفرنسية عاملة في سورية حتى الآن، بس أنا بعتت مذكرة للفرنسيين بأن الحكومة السورية تتابع الموضوع و تراقبه ، و لا نريد إلا العدل و عدم اقحام المذاهب بالجرم . ووجهت أيضاً لمتابعة الصحفيين الي عم يستغلوا الموضوع و بعرف مين وراهم ! بعد الجلاء سيكون للقضاء السوري الكلمة العليا .
-29-
كانت عائلة شحادة محمد علي أمام فاجعة كبرى عندما أخبرهم الأستاذ عبدالحميد الغزي ، أن الفرنسيين شكلوا محكمة خاصة عاجلة صبيحة اليوم ، و حكموا على شحادة بالإعدام شنقاً ، و نفذوا الحكم فوراً في ساحة القلعة !
كانت الكلمات بالكاد تخرج من فم المحامي و هو ينظر في وجوه العائلة المنكوبة، التي لم يعرف بأي كلام يعزيها .
أما هيام فلقد حضنت أمها و إخوتها و شدتهم إلى صدرها ، و هي تبكي بحرقة! و الكل يبكون .
قال الغزي للحج محمد
-الي قاهرني يا حجي أن قاضي سوري قبل يطلع الحكم باسمه
– مينو هاد ؟
– أسقط الناس يا حج محمد الي بيقبل المنفعة الحرام !

نهاية الفصل الأول